أحب أن أصف السفر البطيء بالعودة للذات، أو في مرات هو اكتشاف لمناطق مُهملة داخلك بعيداً عن الضغوطات اليومية. السفر البطيء فرصة للتواصل مع نفسك وعائلتك، مع صوتك الداخلي ومع الطبيعة وتقدير أصغر الأشياء قبل أكبرها. ليس صحيحاً أن السفر البطيء يعني انعدام الانشطة أو المشي بخطوات سلحفاة. إنما العكس تماماً السفر البطيء هو أن تمتلئ ولكن بالمعنى والمتعة والقيمة قبل أن يكون السفر مجرد شطب من قائمة طويلة للتجارب. في السفر البطيء تستطيع أن تصمم يومك حسب رغبتك، فلمَ الضغوطات؟ هل هذا عمل؟ هل هذا ارتباط ومسؤولية حتمية؟ لا.. هو ليس أي من ذلك.. إنه تجربة شخصية حرة ولست مضطراً بأي شكل من الأشكال للخضوع للضغوطات. بإمكانك الاستمتاع بالسفر البطيء مع أطفالك أيضاً، وشخصياً أرى أنه أفضل تجربة سفر للوالدين ، فهم أكثر من غيرهم بحاجة إلى الاستجمام والتقليل من التنقل مع أطفال.
أرى أن فحوى السفر البطيء هو ممارسته كما يحلو لك بدون تعجل، أن تستهدف رغباتك وحاجات جسدك ونفسك ومن ثم تعيش يومك كما تريد وكما يلائم ظروفك. هكذا عشت أيام سفري البطيء ربما تمنحكم بعض الإلهام لمن يريده:
اكتشاف بقعة سرية في أحضان الطبيعة:
استخدم أقدامك للتجول بين الجبال والغابات قدر المستطاع واستكشف ذلك الكرسي أو تلك الشجرة الوارفة الظلال وحاول زيارتها يومياً اثتاء إقامتك. اصنع ذكرياتك بالمكان، مارس التأمل في خلق الله والتفكر في بديع صنعه واسمح لنفسك بأخذ ساعة من فعل اللاشيء سوى التنزه واستنشاق هواء نقي وتقدير الطبيعة الربانية مهما كان شكلها. إن اكتشافنا لشيء يخصنا أثناء عطلنا يعلّي من قيمة الذكريات حين استرجاعها. حتى في المدن المزدحمة من الممكن أن تكتشف حديقة هادئة أو مقهى محلي صغير على زاوية مهملة في المدنية يمنحك فضائل البطء والتأمل. السر هنا هو دائماً أن تختار المكان الأقل ضجة والأقل انشغال.
قراءة كتاب:
لمحبي القراءة أو من يرغب ببدء علاقة طيبة مع الكتب والقراءة؛ السفر البطيء أحد أوقاتكم المنشودة لقراءة صافية. ليس عليك أن تقرأ كتاب أكاديمي، اختر ما يناسبك من الكتب، المهم هنا هو ممارسة فعل القراءة تحت ظروف مختلفة عن الوطن. وجدت أن أفضل مكان أقرأ فيه خلال السفر البطيء هو كرسي يُطل على غابة اكتشفته أثناء نزهتي اليومية، أو أمام نهر يقطع القرية. وإن كنت في مدينة فألجأ دائماً للحدائق، أختار بقعتي وأغوص في كتابي. وجدت أن كتب اليوميات مادة رائعة لقراءتها أثناء السفر، بدا لي أن الكتب بالتفاصيل التي تقرأ على مهل مثل ميدييا وأبناؤها رائعة جداً بوصفها الممتلئ بالتفاصيل والتي تساعدك علي ملاحظة ماحولك أو كتب تحوي مقالات لمواضيع متنوعة مثل ماذا علمتني الحياة لأحمد أمين أو عن معنى الحياة لويل ديورانت الخ. الكتب الهادئة والعذبة ستزيد من قيمة التجربة.
مشية يومية:
أو ركضة أو جلسة حسب مستوى لياقتك. أنا كما تعرفوني من أصحاب اللياقة العالية جداً ولكني أفضل المشي حتى لا يشعر فهد بالضغط النفسي من محاولة اللحاق بي لذلك المشي أنسب. كان من أمتع فقرات يومي هو تلك “المشية اليومية” والتعرف على طرق جديدة أو إعادة استكشاف نفس الطريق. نمشي ما لا يقل عن ساعتين بدون هدف محدد إنما الهدف هو ممارسة المشي والتوقف حسب الحاجة لتناول القهوة أو الاستقرار لقراءة كتاب، أو تأمل عصفور يبحث عن لقمة تائهة في الطريق. أحياناً تكون المشية في أرض سهلة ومنبسطة وأحياناً نختارها تكون مشي إلى قمة الجبل. مع الكثير من التوقف والعصبية لصعوبة الطريق وكل هذه طبعًا تمثيلية متقنة مني حتى لا أشعر فهد بلياقته الضعيفة.
اكتشاف مفاجآت الطريق:
بدلاً من المشي بسرعة للوجهة آثرت أن أمشي على مهل وأتأمل ما تدوسه قدماي، أتأمل ثمار الشجر وبعض النباتات الغريبة وأتعرف عليها ومعلومات عنها. شاهدت ثمار الصنوبر والتفاح وتعرفت على نباتات ذات ثمار سامة تنبت عشوائيًا في الطريق بمنظر وألوان جميلة وبراقة ولكنها سامة ولا تؤكل؛ الأمر الذي يذكرني بأن بعض الأشياء من الأفضل النظر لها فقط لأن ليس كل ما هو براق من الخارج مناسب ومثالي لنا. اكتشفت مثلاً حجرة واقعة في طريقي قام أحدهم بالرسم عليها بشكل جميل.
كما تعرفت على أشجار ونباتات جميلة وعدييييدة لم تكن عيني لتلتقطها بهذه العناية عندما كنا نمشي سريعاً للحاق بالوجهة وكأن هناك مجرم يلحق بنا. أستخدم تطبيقات أقوم من خلالها بتصوير النبات ويجلب لي معلومات مثيرة وغنية عن الشجرة أو النبتة. فصيلتها، صلاحيتها للأكل، البيئة المناسبة، مصدرها وطريقة العناية بها. منحني السفر البطيء القدرة على ملاحظة التفاصيل المختبئة، صرت التقط قوس المطر في كل مكان، في السماء وفي الأرض عند أقدامي.
لكل منا اهتمامته التي تخصه، ليس على مفاجآتي أن تشبه مفاجآتكم، يستمتع غيري بالنظر للمارة وفتح حوارات وأحاديث الخ. تعرف على مفضلاتك وما تحبه فهي رحلة لك أنت وعائلتك فقط وليس عليك أن تشبه إلا نفسك.
جولات بالدراجة:
أتمنى أن يتحقق حلمي بمعرفة ركوب الدراجة ولكن جزء كبير مني يخاف من الوقوع، ولا زلت أحاول التغلب على ذلك. سأكتب يوماً أنني تعلمت ركوب الدراجة وتوقفت عن الصراخ والسباب وأنا أحاول. حتى ذلك الحين استمتعوا بركوب الدراجة خلال سفركم والتجول بين الحدائق والشوارع قدر استطاعتكم. دائمًا يعتبر ركوب الدراجة في جولات يومية طريقة مفضلة للمسافرين ببطء. فهي رياضة ومتعة وعلاوة على ذلك لا يوجد منها ضرر بيئي، وتتيح لك التوقف أينما تريد دون الاضطرار للبحث عن موقف للسيارة، أو تعطيل بقية السيارات.
الأسواق المحلية و البضائع القديمة (Antique):
بدلاً من التسوق من الماركات العالمية جرب استهداف الأسواق المحلية والتي تجمع أصحاب الأشغال اليدوية، مصممين هواة يقومون بصنع أشياء جميلة ومليئة بالمعنى، فمرة ابتعت سلسال صنعته صاحبته يدوياً بورقة شجر جرفتها ثم دعمتها بهيكل معدني مطلي بالذهب في قطعة لا تشبه شيء وليست مصنوعة في مصنع.
أيضاً تعرفت على متاجر متنقلة لفنانين أعمالهم بديعة وتحمل هوية المكان الذي زرته، فمثلا في جنوب افريقا تجولت في سوق محلي للبضائع المصنوعة يدوياً ووجدت هناك كنوز فريدة، أغطية طاولات بأقمشة عالية الجودة، نقاشات مميزة مصنوعة يدوياً، مريلة طبخ بطبعات فريدة، وأخيراً حقائب لليد وللجهاز المحمول تمنحك قيمة مختلفة جداً عن بضائع السوق الاستهلاكية.
الحقيقة أن التبضع من الذي يصنع السلع مباشرة له أثر كبير فمعرفة كيف صُنعت ومشاهدة الفنان الذي صنعها يضفي قيمة مميزة للقطع مما يجعلك تنتقيها بعناية أكثر وتصبح قطعة مستدامة تحمل الكثير من الذكريات. جل المدن تقام فيها أسواق مثل هذه في أيام السبت والآحاد.
كما تنتشر في القرى متاجري المفضلة للفنتج والقطع القديمة المتوارثة، أمضي الكثير من الوقت بدون عجلة في تأمل ما يعرضونه من تحف، أدوات طبخ وطعام، مفارش طاولة وانتهاء بالمجوهرات وقطع الأثاث التي تعود لعشرات ومئات السنين. أجد أن مثل هذه المتاجر تتيح لي التعامل مع المحليين أكثر، فلكم فتح باب حوار مع سيدة. مسنة تدير المتجر وتدلني على القطع المميزة وتساعدني في الاختيار وتذهب بخطى بطيئة للبحث عن مفتاح الخزانة من بين عشرات المفاتيح. ونجرب سوياً أيهما يفتح الخزانة التي اخترت منها الأقراط. ابتعت من أحد متاجر الانتيك في دوركن/بريطانيا أقراط مطلية بالذهب صنعت لسيدة في عام ١٩٧٧م ، ومن جمال هذه المتاجر أنها مكنت سيدة مثلي في عام ٢٠٢٢ لإعادة استخدامها بسعر رائع وغير مكررة وأعرف أن أقراطي هذه لا يوجد ما يشبهها تماماً.
دروس طبخ / صناعات يدوية الخ:
إن من أعظم ما يمنحه لك السفر هو ممارسة تجارب جديدة بطريقة تناسبك، و يمنحك فرصة تنمية مهارات مختلفة، مهارات خارج نطاق الأعمال المهنية. مهارات للحياة وللتعرف على النفس وما يمنحها الهدوء. في إيطاليا يمكنكم المشاركة في دروس لصنع عجينة الباستا، أو عجينة البيتزا الايطالية على أصولها. وفي فرنسا يمكنكم التعرف علي طريقة صنع الماكرون مثلاً. وفي بلجيكا يمكنكم البحث عن دروس لصناعة الدانتيل وتطبيقاته. صنع فخار وتلوينه ، أو الانضمام لمجموعات الكروشيه، أيّاً ما كانت اهتمامتكم وأيّاً كانت وجهتكم فبإمكانكم دائماً الحصول على فرصة للتعلم ضمن مجموعة، تنسى فيها قليلاً العالم والسياحة العجولة والانغماس في صنع منتج لن تنسى كيف صنعته.
جولات تصوير احترافية:
ولا أعني بذلك أن نكون مصورين محترفين، ولكن أعني أن يكون التصوير ضمن يوم بطيء ليس لمجرد التوثيق والإثبات أننا هنا وفعلنا ما يفعله الجميع. وإنما لالتقاط الجمال حولنا، للنظر في ما تخبئه الطرق. للبحث عن وردة تصنع مشهد جميل قد يفلت من العين العجولة. جرب التصوير بطرق مختلفة، جدد العهد مع قمرتك المنسية أو استخدم هاتفك لتصوير الجمال الذي تشاهده وتقدره. إذا كان اليوم مخصص للتصوير فسيكون من السهل جداً الإبطاء والملاحظة، وستتمكن من التعرف على حارات جديدة وتلتمس الجمال في النوافذ والأبواب وستمارس العشوائية بدون ضغوط اللحاق بالخطة، تباً للخطة مجدداً.
قهوة على الجالس:
من أعظم متعي في السفر أن أشرب قهوتي على كرسي في حديقة أو غابة أو بحيرة. وأتمتع بتذوق معجنات مخبوزات المقاهي والتلذذ بكل لقمة ببطء. أحاول اكتشاف المكونات، أستحث ذاكرتي للمقارنة بين النوعيات التي قمت بتذوقها مسبقاً وأيهم أقرب لذائقتي؟ إن كان البعض ينعت مثل هذه الأنشطة بالسخافة فأنا أراها غارقة في العمق لأنها تنبع من رغبتي أنا واهتماماتي، تعلمني كيف أعيش اللحظة واستلذ بخيرات الله. أقدر النعمة وامنحها الوقت الكافي لتناولها في مشهد ساحر تفقده عيناي في المدينة. إن تذوق الطعام والغرق في اكتشاف نكهاته فنّ غارق في المحلية، فلكم التقطت حليمات تذوقي الاختلافات بين المدن وطريقة صنعهم للمأكولات وتمازج النكهات. وأفضل ما تمنحه لي هذه التجربة البطيئة هو العودة بحماس لتجربة نكهات جديدة على مطبخي ووصفات الاعتيادية.
أوراق شجر خريفية جميلة:
اعتدت منذ بدأت السفر بالتقاط جميل الأوراق المتساقطة في الخريف، إنها تمنحي بهجة لا يمكنني شرحها أو تبريرها ولا أحب مساءلتها. إنني أحبها فحسب. صرت أضيع في كومة من الأوراق وأتفحص ما يعجبني منها. شاهدت ألوان مختلفة ودرجات متنوعة بدرجة مذهلة. احتفظت ببعض منها بين طيات كتبي المرافقة وما أن عدت إلى البيت وضعتها في إطار في مكتبي المنزلي يذكرني بالخريف الجميل والسفر الهنيء.
ألقاكم في الجزء القادم بإذن الله.
ريما
جمال وصفك وجمال سفرك البطيء وتلذذك بكل اهتماماتك مهما بدت صغيرة إلا أنها تستحق التقدير .. اعجابي بفكرة السفر البطيء وكتابتك عنه بهذا الشكل راق ليّ كثيرًا واتمنى تجربته مع أشخاص يفضلونه لكي تكون الاهتمامات مشتركة ..
جميلة يا نوال ولك في القلب محبة وإعجاب ..
حفظك الله أينما كنتِ ❤️❤️😘😘
حنين
اعتدت في سفراتي الأخيرة أن أحافظ على صحوتي المبكّرة جدًا، والتي كان لها طعمٌ خاصٌ خارج مدينتي. ففي كلّ مدينةٍ سكنّاها خلال سفرنا كنتُ أصحو قبل الجميع وأستمتع “بتمشية”في المنطقة أراقب خلالها -وأقارن- كيف تصحو كلّ مدينة ومن هم أهلها المبكّرون.
فأعود في كلّ مرةٍ بذكرياتٍ بصريّة وسمعيّة لم يحظَ لها من معي، وأشعر بارتباطٍ مميّزٍ جدًا بالمكان أحتفظ بع في قلبي ♥️.
شكرًا على جمال حرفكِ ووصفكِ يا نوال ♥️
فاطمه
اتمنى لك التوفيق مقال رائع ووصف جميل جداً جداً وبليغ ودقيق ومليئ بالمعنى💜💜💜💜
نوره مبارك
شكرًا جزيلًا لك على هذه السلسلة، أحببت كل ما ذُكِر فيها..
وجدان
حلو و جميل جداً وصفك لانشطة السفر البطيء الفريد من نوعه، وصف متفرد لانشطة متفردة ..قلمك بديع