الكتاب: الملكة والخطاط ، يهود دمشق كما عرفتهم
تأليف: موسى عبادي
دار النشر: المركز الثقافي العربي .
لطالما كانت الكتب التي تتحدث عن “الآخر” تجذبني ، الاخر العدو أو الصديق أو المجهول ! المهم أن أعرف أكثر حتى تستقيم قدرتي في الحكم على الأمور إن احتجت .. لذلك التقطت هذا الكتاب وقرأته البارحة ..
كتاب خفيف جدا، أدب القصص القصيرة ليهود يروي بعض من الحكايا والذكريات التي عاشها سنين طويلة في حارة دمشقية في سوريا..
يقدم المترجم الكتاب بهذا الشكل : (والمحرك هنا سؤال يتعلق بمكانة اليهودي داخل المدينة، أو كيف يمكن لليهودي أن يمارس معتقداته وطقوس دينه جون أن يكون معزولا عن محيطه أو منبوذا منه. وهو سؤال شغل حيزا هاما من الفكر السياسي الأوروبي، بدءا من الثورة الفرنسية وإعلانها “تحرر اليهود” بإخراجهم من الغيتو ومنحهم حق المواطنة، حتى النازية التي أرجعت المواطنين من أصل يهودي إلى الغيتو وقادتهم منه إلى المحرقة ..الخ)
كتاب خفيف جدا يصلح لان تصحبه معك في الطائرة أو في غرفة انتظار لموعد .. يسرد قصص قصيرة وحكايا خفيفة وذكريات ليهودي عاش سنين طويلة في حارته الدمشقية في سوريا .. يحكي عن الحياة وكسب العيش ، عن أناس سكنو ذاكرته كما لم يسكنها أحد من قبل .. عن الغرباء وعن الباعة وعن الطيبين والنبلاء .. عن التعايش والسلم الذي لم نعد نلمس منه ولو القليل !
الترجمة جيدة إلى جيدة جدا ، أسلوبه القصصي جيد ومؤثر كثيراً في بعض الجمل التي كانت تأثر فيني وبشكل جلي مثل:
-لا نستطيع أن نطلب من الناس أن تتصرف كالبني آدمين عندما نعاملها كالبهائم
– ذات يوم انهار أبو سارة بعد جولته الأولى، جولة الشحاذ .. ولم ينس الله “الآخرين” لكن، كان للخبز الطازج المرسل إليهم من دائرة الشؤون الخيرية “طعم الصدقة”.
أما خبز أو سارة اليابس فكان له حسب تعبيرهم “رائحة الطيبة”– وقبل أن ترجع إلى الوراء مفادرا البلاط الملكي عليك أ،ن تشير للسلطان إلى السماء
– لم يعد هناك من سلطان
– إذا تشير للملك إل السماء لتذكره باحترام من خلال هذه الإشارة بأن ملك الملوك يحكم من هناك وأنه ليس سوى خادمه الفقير– كيف لي أن أنسى ذلك العالم الصغير حيث يبيع السمان كل شيء بالدين للطفرانين، لأنه كتب أن ” أكثر ما يرضي الله ليس فتح دفتر لتسجيل ما يدينه لكم الآخرون وإنما وفاؤه بالصلوات والأعمال
الحسنة بما تدينوه له ”
جيث كل شيء ممكن وكل الناس على حق، وحيث يقال دوما وعلى السواء للأغنياء والفقراء للشبعى والجوعى “صباح الخير” أو “مساء النور”؟– لم نكن من نفس المقام، حسب قول الخواجات، ولا حتى من نفس العمر فهو يكبرني بنصف قرن على الأقل. وقد شاءت الأقدار أن أملك أنا كل شيء وألا يملك هو شيئاً.. فمقارنة مسكنه الحقير حيث يعود بعد صلاة المساء ليلقى زوجته وأولاده وأحفاده، كان بيتي بأرض دياره وبركة مائه أشبه بقصر مهراجا.
– ليس الغنى والرخاء سوى سلفة يمنحها الله لمن يختارهم. إذا لم يستفيدوا منها لعمل الخير، فأنا لا أتمنى أن أكون مكانهم يوم يلقون ربهم، اعتاد أن يقول.
يمكنك أن تلمس نبرة الحنين والولاء، الوقوف على الأطلال ، الوقوف على الزمان الذي ذهب ولم يعد.. على أناس ذابت بينهم حواجز العقيدة والسياسة والتاريخ والعداءات والصراعات , على زمان ذهب بسلامه القليل إلى زمان فيه عداء كثير وكذب وتاريخ ملفق ..
لربما يكون هذا الكتاب أحد الكتب التي تعتبر صفعة ودليل للعالم كله أن اليهود لم يقيمو يوما في مكان بكرامتهم كما أقامو بين العرب والمسلمين في ذلك الوقت .. عندما تعذرتهم أوروبا ، عندما لاحقتهم مكاحم التفتيش ، لم يطيب لهم العيش سوا بيننا .. لكن التاريخ شوّه بفعل فاعل وتنكر الجميع وسلبت فلسطين وغيرها بدعوى ظالمة قوتها فقط أننا ضعفاء ومتفرقين ..
هذا الكتاب يعرفك على اليهودي الآخر ، غير اليهودي الذي نراه في الأخبار ، الذي نعرف أنه سلب الفلسطيني داره وأرضه ووطنه ، اليهودي الذي يعقل أن مكانه ليس أرض يسرقها أو يشتريها بغير وجه حق .. اليهودي الآخر الذي استطاع أن يتجاوز حواجز العقيدة والبيئة وينصهر في بيئة شامية محاط بجار شيعي وآخر سني ، اليهودي الذي يقرض فلسطينيا بدويا مسلما دنانير ثم يحفظ له هذا المسلم الجميل عبر أجيال عديدة يقدمون له الشكر عبر سمنة و لحمة !
هذا الكتاب يعطيك لمحة كيف أن البيئة المضيافة تشجع المقيم فيها على السلم، والانخراط في هذه البيئة بدون الانزواء على الذات والموروث ،، على أن يتصالح ويتعايش .. أعطاني أمل بسيط في أن التعايش فعلا ممكن ، وسيحدث مرة أخرى بإذن الله .. وأن هذه الغيمة السوداء ستبتعد بعيدا وربما سنعيش بعضا من السلام الذي نحلم به في الجنة على هذه الأرض
كنت في كتاب آخر سأعيب استخدام اللفظ العامي ، لكن هنا أشجعه بقوة فهي تكريس لحقيقة انخراط الحارة اليهودية في المجتمع الشامي آنذاك بكلماته وطباعه .. و أكثر ما أعجبني من الحكايا : أبو سارة وحكاية بدو
كنت أتوقع من الكتاب أكثر لكنه خفيف جدا وأقل عمقا من ما توقعت لذلك أرى أنه مناسب للطائرة كما قلت أو في لحظات الانتظار.. ولكن في حال كنت تبحث عن دراسة تحليلة وتاريخية لليهود في دمشق مثلا فلا تتوقع الكثير ..