خيارات الحياة

Date
فبراير, 16, 2025

أعاني نفسيًا خلال الفترة الأخيرة من ندم على قرارات كثيرة اتخذتها، أغوص في دوامة التفكير تجاه تلك القرارات وتبعاتها ولم أستطع تجاوزها بخفة ولا حتى بكل الثقل الذي أعيشه تجاهها. هذه الندم أورثني تردد لم أعهده في نفسي، أقف على مسافة حذر من القرار، أحدق طويلاً وأتساءل: ماذا لو تجرأت واخترت وكان خياري خاطئ؟ أعيش وكأن كل خطوة نحو الأمام تستوجب مني حوارًا طويلًا مع نفسي، حوارًا ينتهي في أغلب الأحيان بلا إجابة، بل بصمت محمّل بثقل السؤال وحيرة تكبلّني وتأنيب للنفس لا ينتهي.

يصف ميشا سليموفيتش هذه الدوامة في روايته الدرويش والموت: ” كثيرًا ما ندور من حول أنفسنا مثل دوارة الريح ونكون غير واثقين من موضعنا. تصيبنا قلة الأمان بالجنون. نتذبذب بين القنوط ونتمنى راحة البال؛ ولا نعرف أيهما لنا. فأي قرار إلا ما قد يضطرب له ضميرنا، أفضل من ذلك الإحساس بالضياع، الإحساس الذي يشيعه في نفوسنا عدم اتخاذ القرار. على أن القرار لا يجوز أن يكون متعجلًا، فعلينا أن نكتفي بمساعدته في التطور والظهور إلى ان يأتي وقته “

أصبحت أعيش حياتي بحذر مفرط ومتأهبة للندم ومساءلة خياراتي دون جدوى. حذرٌ خلّف في داخلي شعورًا غائرًا بأنني لو عدت إلى الوراء، لربما فعلت كل شيء بشكل مختلف. ولأن الماضي يأبي المساس به ، أجدني أسيرة أفكار موحشة وقرارات لم تُتخذ بعد.

قراءة كتاب تود سلون – خيارات الحياة أعادت لي بعض التوزان الذي فقدته حيال خياراتي سابقًا والقرارات وكل السياق الذي يغلفها ويقودها في أكثر المرات. تتحدث فلسفة تود سلون في كتابه “خيارات الحياة” عن سردية الخيارات التي نتخذها وكيف تشكل مسارات حياتنا وكيف لمسار حياتنا أن يشكل هذه الخيارات أيضًا. يفسى سلون عبر دراسته لعديد من الحالات في الكتاب الجانب العميق الذي تُبنى عليه هذه القرارات، والذي غالباً ما يكون بعيداً عن إرادتنا الحرة ووعينا التام بحيثيات الخيارات كما نعتقد. فهمت من سلون في أكثر لحظاتي ضعفًا كيف أن الخيارات رغم أنها تبدو فردية وشخصية، فهي تتشكل بشكل كبير بناءً على الظروف الاجتماعية والاقتصادية، والنفسية، مما يجعلها أحياناً محكومة بحدود خارجية أكثر مما نعتقد. خارج حدود العقل الواعي في تلك اللحظة.

“يمكن لتشبيه القرارات بالكلمات أن يكون مفيدًا هنا، تستمد الكلمة معناها من مكانها في الجملة، أو قواعد النحو، أو اللهجة، أو اللغة التي تنتمي إليها، وهذه السياقات وغيرها تحدد معنى الكلمة. كذلك فللكملة علاقة بالواقع الذي تدل عليه، لكن هذه العلاقة قوامها هو موقعها في هذه السياقات.”

يستكشف سلون الأطر المعقدة والمرهقة لاتخاذ القرارات في العالم الحديث وهراء اختزال كتب المساعدة الذاتية لعملية اتخاذ القرار بخطوات عمليّة وبناء الخيارات على مطلقها وأن العملية أعقد من ما نتصور “فعندما نفحص سياقات أخرى غير سياق الشخصية، سيصبح من السخف بشكل متزايد تخيل أن القرار له سبب واحد”. يتناول تود معضلة الخيارات عبر منهج يجمع بين التحليل النظري ودراسة متعمقة لحالات واقعية اختارها لإمعان النظر في بنية اتخذا القرار بناء على السياق المعروف والمجهول.

وبدلاً من أن يقدم سلون إجابات جاهزة، يأخذنا عبر الحالات التي تفحصها في رحلة تفكير في المعضلات التي نواجهها حيث إن مساءلة النفس والتأمل الذاتي لسياق الحياة ومساراتها يساعدنا على فهم التفاعل بين العوامل الداخلية والخارجية.

لربما تناول الأدب العالمي مقاربة سلون في معضلة الخيارات في رواية “الآمال الكبرى” لتشارلز ديكنز، يواجه بيب -بطل الرواية- صراع عميق بين طموحه وواقعه المعاش؛ فهو يطمح لحياة أفضل ولكنه يدرك مع الوقت أن طريقه في الحياة يتحدد بعوامل خارجة عن إرادته الحرة وآماله العظيمة للوصول إلى النبل، الأمر الذي دفعه إلى حالة من الحيرة والندم تشبه تلك التي نعيشها. لقد أدرك بيب مثلما ندرك أن الاختيارات ليست مجرد خيار نقوم به بقدر ما هي مزيج معقد من سياقات لن نفهمها كما هي واستجاباتنا الشخصية المتفاوتة لهذه السياقات المفروضة. أرى في بيب لمحة من نفسي، من ارتباكي حين أصطدم بحقيقة أن بعض القرارات، رغم محاولاتي الجاهدة لاختيار أفضلها، ليست سوى انعكاس لحياة لن آخذ منها أكثر من ما كتبه الله لي.

“يملك كل واحد منا قصة حياة، أو حكاية داخلية تشكّل استمراريتها ومعناها حياتنا الفعلية، إن كلًّا منا يؤلف قصة ويعيشها، وهذه القصة هي نحن، أو هي هويتنا. إن كل واحد منا هو سيرة وقصة، كل واحد منا هو حكاية فريدة يتم تركيبها باستمرار، ودون وعي، بواسطتنا ومن خلالنا وفينا، من خلال إدراكاتنا ومشاعرنا وأفكارنا وأفعالنا، وبواسطة حديثنا أيضًا وحكاياتنا المنطوقة. نحن نتشابه بيولوجيًا وفسيولوجيًا، أما تاريخيًا – باعتبارنا قصصًا- فكل منا فريد. ومن أجل أن نكون أنفسنا يجب أن نتذكر الدراما الداخلية لأنفسنا وقصتها” – أوليفر ساكس

أنهيت الكتاب مرتين، رغبةً في أن أدرك محدوديتي وأتعلم وأبني توازني ورضاي أيضًا، وأن أدرك أن الخيار الأمثل في كثير من المرات هو أن تجعل خيارك الحالي صائبًا عندما لا يكون التراجع خيار. أن تتقبل خياراتك وتصفق لقرارك بشجاعة القبول وتمضي محاولًا فهم نفسك وسياقاتها والمسارات التي قادتك لهذه المحطة. ربما أحتاج إلى تعلم أن الخيارات كانت خاطئة أو صائبة هي جزء من نسيج الحياة وجوهرها، وأن الندم ليس عدوًا بل يجب أن يكون زائر عابر ومعلم قاسٍ. أن أختار، وأخطئ، وأتعلم وأسامح نفسي، وأمضي وألا أقف كثيرًا على شيء لن يعود وربما في لحظة شجاعة غير متوقعة أقول لا لفرصة ونعم لأخرى وأن أفلت من يدي السيطرة قليلًا فاكتشف أن التهور وتجاوز التردد ليس سيئًا دائمًا كما تخيلت. لقد فهمت من سلون كيف يمكن أن ننظر للخيارات على أنها وسيلة للتعرف على النفس وإضاءة دهاليزها المعتمة بدلًا من تقريعها، ومحاولة تجنب خداع الذات وأن “خيارات الحياة” هي أكثر من مجرد مسار فردي وقرار بإطار واضح؛ بل هي حكاية تنسجها سيرة شخصية واجتماعية وقيود وتعقيدات تصاحب الإنسان وتتحكم نوعًا ما خياره. هذا الكتاب بالنسبة لي محاولة للتصالح مع ندوب خياراتي سابقًا والاحتفاء بسياقي العام والخاص والانخراط في حالة قبول كنت أفقدها بشدة.

نوال القصيّر

2 Comments

  1. رد

    خوله

    فبراير 16, 2025

    شكراً نوال.. متميزة كالعادة
    لخصت المقال بالفكرة أدناه:

    “التسامح مع الذات يُعيد لنا سلامنا الداخلي، ويذكرنا بأن قراراتنا صاحبها تعقيدات تحكّمت نوعاً ما في خياراتنا، واننا اخترنا الأفضل في إطار معرفتنا وإمكانياتنا وقتها”.

  2. رد

    الماريسي

    فبراير 19, 2025

    رجوع بعد سنتين من الغياب. الحمد لله على السلامة.

Leave a comment

Related Posts

لمحة

بكل عاديتي وبساطتي وتعقيدي أكتب وأدوّن حتى أنمو أولاً ومن أجل الأثر ثانياً. مدوّنة نوال القصير عمرها طويل فقد ولدت في عام ٢٠٠٦ تعثرت كثيراً وهُجرت أيضاً ولكنها شهدت أعوام من الالتزام بالكتابة. تطوّرت وتراجعت ثم عادت للحياة مرات كثيرة كنبتة جفّت ثم انعشها المطر. أكتب عن الكتب والقراءة، عن كل المفاهيم والقيم التي أعيشها أو أرغب العيش بها ومعها. مدونة للأيام الجيدة والسيئة.

المقالات الاخيرة
موصى بقراءته