مضت ستة أشهر على وفاة والدي، وأنا الآن أستحضر كل ما مضى. أستحضر الأيام التي ظننتها لن تمر ولكنها مرت، اللحظات الثقيلة التي سلبت قدرتي على التنفس بخفة لم تعد تزورني يومياً. الآن أتذكر يوم الوفاة والصلاة والمعزين والليل الوحيد جداً في بيتنا.
كان الشهر الذي سبق وفاته موحش كبيت مهجور تستحي أشعة الشمس أن تنفذ له، مكث في المستشفى عدة أيام ثم خرج للانطفاء يوماً بعد يوم، كنت بلا وعي أنعي كل الأيام الماضية والإحسان البالغ الذي نالني منه طوال حياته وحتى بعد وفاته. ماكنت أظن يوماً أن نعتاد على سيارات الإسعاف خلال ذلك الشهر. حتى ابن أختي ذو الخمسة أعوام يسألنا حين يشاهد سيارة إسعاف في الشارع: فيها بابا سعد ؟
حين أخبرتنا أختي أن والدي تقيأ دماً في ذلك اليوم عرفت أن سيارة الإسعاف هذه هي الأخيرة، وكم هو موجع أن أعرف. ساعات قليلة ثم تُعلن الوفاة. لقد انتهت معاناته وانتهى مرضه، انتهى وجوده في هذه الحياة. اهتز عالمي كله بأركانه الشديدة، بدأ هو حياة أخرى وبدأ قلقي أنا وألم فقده الباقي.
مراسم الوداع:
في كل مرة نفقد فرداً من عائلتنا كنت أتجنب بسذاجة توديعهم الأخير، كنت أهرب بخوف من مشاهدتهم بالكفن، لم أكن أعتقد أني أستطيع هذا الوداع الموجع. لكني دائماً أدفع ثمن هذا الهرب في أيامي اللاحقة، في وحشة بيوتهم حين أدخلها، وفي انقطاع اتصالاتهم. هذه المرة لن أهرب من وداع أبي، سأكون وسط هذا الوداع الأخير حتى ألقاه في الحياة الآخرة. تجاسرت على نفسي وعلى قلقي وعلى هذا الخوف الذي يسكنني. انتظرته في غرفة المسجد، حملوه واستقبلناه بوافر الدموع، تأملته وأقسمت على نفسي أن لا أشيح بنظري وأن أعيش كل هذه اللحظات المؤلمة وأن أحتفظ بوجه أبي مغمض عينيه بسلام. لقد كان جسد أبي بارداً جداً بعد ثلاجة الموتى، كانت هذه البرودة عزائي الأبله حين كان جسده في أيامه الأخيرة يشتعل ناراً من حرارة مرتفعة لم يجد الأطباء طريقاً لإخمادها. لقد كانت لحظات مهيبة وأنا أرى والدي مستلقي على سريرٍ قاسٍ، والبكاء يعمّ المكان، والدعوات تتصاعد منّا. كانت لحظات كفيلة بأن تضع كل شيء في مكانه الحقيقي الحقير جداً.
في الوداع الأخير بكيت كما لم أبكِ من قبل، وأنا أعرف أن والدي سيوارى في التراب بعد قليل وأني كلما دخلت البيت لن ألتفت يميناً لأقبل رأسه وأسلّم عليه. بكيت على كل الألم الذي عاشه في سنواته الأخيرة والعجز الذي أقعده، والسنوات القاسية التي عاشها من أجلنا. لقد بكيته بقلبي قبل دموعي وآلمني أنه سيذهب لقبره وحيداً مثلنا جميعاً لكن عزائي الوحيد هو رحمة الله ثم إحسانه البالغ لنا.
في الوداع الأخير عاهدت أبي أنّي وإخوتي لن ننساه، سيكون حاضراً في قلبي وفي دعواتي، وفي الصدقات وطيب الأثر. عاهدته أن أضمنه في دعائي في كل صلاة وكل عمرة وحج، عاهدته أن لا أذكره إلا بالخير الذي يستحقه. في الوداع الأخير قبّلت رأسه البارد القبلة الأخيرة، قبلة عن كل الشقاء الذي خاضه من أجلنا، وعن كل العطف الذي غمرنا به، وعن كل الكرم الذي أغدقنا به.
الصلاة:
هذه آخر لحظاتنا معه وهو فوق الأرض، لقد كانت موجعة وقاسية ولكنها وبتعجب شديد كانت هادئة جداً، تكبيرات مليئة بالدعاء والبكاء وحديث لله عز وجل أن يحسن مثواه واطمئنان بالغ أنه سيصبح في ضيافة الخالق. لقد كانت صلاة الميت شفاء مبكّر ورحمة من الله بالميت وذويه. أن تكون قادراً على مناجاة الله وأنت في قمة حزنك، وتتحد في حزنك مع غيرك، يوحدكم هذا الفقد وهذه الدعوات التي تشبه بعضها. أن تعلم أن هذه الشعائر الدينية للوداع هي سلوى للقلوب رغم ألمها، وفرصة لقبول المواساة وأذن من الله عز وجل أن نعيش حزننا، ونعبّر عن فقدنا لمن نحب. وبعد السلام الأخير وبكل رضا وقبول وأسى شديد تفلت كل شيء، وتسلّم فقيدك لمثواه وأنت تقول إنا لله وأنا إليه راجعون. فتنقطع وشائجنا في هذه الحياة الدنيا ولكنها تولد من جديد بشكل آخر وروابط أخرى.
ذهبوا بأبي للمقبرة وظللت أتحسس الخبر عنه من زوجي وأخي، أريد أن أطمئن أنه دفن بسلام، أنه دخل منزله الجديد واستقرّ. رغم أني أعرف أن العودة لبيت والدي بعد الصلاة ستكون قاسية لكني رغبت وبشدة أن أكون هناك حول فراشه ومع أمي قبل كل شيء.
الآن أتذكر كل هذا وأنا مطمئنة أني ودّعته، أني كنت معه وهو ينتظر دفنه، أني صليت مع المصلين على فقيد قلبي. مستكينة جداً أني لم أهرب من هذا الوداع وأن كل تلك الطقوس رغم إيلامها الشديد فهي شفاء عظيم، وسلوى للأيام التي يكون من الصعب الاستيقاظ فيها. أتذكر هذا الوداع الأخير ووجه أبي وبرودته، وأتذكر جسده الممدد بعدما كان يعاني بشدة من التقوس. أتذكر أنه ذهب للرحمن الرحيم فأرضى وأطمئن. أتذكر اللحظة المهيبة بعد السلام من الصلاة، وجلبة المعزين تربكني وحشدهم يخبرني أني لست وحيدة رغم كل هذه الوحشة.
قبل الصلاة على أبي كانت آخر مرة دخلت فيها ذات المسجد، معه. كنا نصلي على خالي رحمه الله، هذه المرة خرجت من المسجد بدون أبي وكم كان موجعاً مشوار العودة. خرجت للبيت وأنا أعرف أني لن أرى أبي بعد اليوم، سيزورني طيفه كثيراً، يتراءى لي وهو يتجول في المنزل، ويجلس على كرسيه في الفناء. خرجت من المسجد بدون أبي هذه المرة ولكن في ذاكرتي كل ما فعله أبي، كل الذكريات الجملية من البالطو الأزرق الذي اشتراه لي وأنا طفلة حتى نظرته لي ونحن في الطريق للمستشفى في أيامه الأخيرة.
Haifa
بكيت كثيراً وانهالت دموعي لفترة بسبب هذه التدوينة..
رحم الله والدك وجعله من المنعمين بالفردوس الأعلى
عزاؤنا أن سخر له ربي من يدعو له وهو لا يعرفه
ابتهال
رحمه الله وغفر له وأسكنه في نعيم الجنان في الفردوس الأعلى .. ورزقكم الصبر والسلوان ..
ابتهال
احب تغريدتك هذه ..https://twitter.com/nawal_saad/status/46746635547582465
اصبحت استشعر نعمة سماع هذه الخطوات 🤍..
غفر الله لوالدينا أجمعين
حصه الجريوي
دموعي تسبق حروفي يا أنيقة الفكر والكلمه (نوال)..
رحيل الأب غصة قلب لا تموت حتى نموت
أسأل الله العظيم جبار السماوات والأرض بأن يجبر قلوبكم جبراً يليق به ويرفع منزلته في عليين و يغفرله ويرحمه💔
بشرى
الله يغفر له و يرحمه ويغسله بالماء و الثلج و البرد و يجمعكم به في الفردوس الأعلى
عظم الله أجركم نوال و ربط على قلوبكم
هـيفاء
اطلب نِقابي بالدموع وشعرت بمشاعرك إلى أعمق نقطة في قلبي
رَحِم الله والدك وجمعك به في أعلى الجنان، ويرزق والدينا جنات النعيم يا كريم
♥️♥️♥️
هـيفاء
تبلل نِقابي بالدموع وشعرت بمشاعرك إلى أعمق نقطة في قلبي
رَحِم الله والدك وجمعك به في أعلى الجنان، ويرزق والدينا جنات النعيم يا كريم
♥️♥️♥️
نوير
اسأل الله له الرحمه والعفو والغفران وجبر الله قلبك كلماتك لمست القلب
فادي
رحمه الله وأجزل له المثوبة، نعمَ ما ربّى وخير ما خلّف
جعله الله فرطكم على الحوض وآنسكم بذكره وحسن شمائله.
م. طارق الموصللي
بعد قراءة تدوينتك “كيف تجاوزت ألم الفقد بكتابين ❤️🩹 “. أردت إخبارك كَم أوجعني قلبي.. لمجرد ذكرك موت والدكِ -رحمه الرحمن الرحيم- فيها، وإذ بيّ أصل هذه التدوينة.. التي أجرت دموعي كما لم يحدث من قبل.
diva
مقال اكثر من رائع
شكرا
موقع ديفا اكسبرت الطبي
DA
فقدت أبي قبل ٢٠ يوم وفتحت هذه الصفحة وكانك تتكلمين عن مشاعري بالحرف الواحد 💔 كيف اتخطى؟؟